تثبيت الخيارات الأساسية في النهضة العربية
مقالات و تحقيقات /
سياسية /
1984-04-07
تثبيت الخيارات الأساسية في النهضة العربية
يا أبناء امتنا العربية المجيدة
ايها الشعب العراقي العظيم
ايها البعثيون المناضلون
عندما تحل الذكرى في ظروف تاريخية كالتي يمر بها العراق، وبسجل فيها.. بعد أربع سنوات من معركته المظفرة.. حالة نادرة المثال في نضجها وعمقها، فلا بد ان يكون لوقفة الاستذكار والاعتبار وقع خاص في النفس، وان تحمل خلاصة لتجربة عمر، ولمسيرة طويلة شاقة، قام على طريقها المناضلون الأوفياء لقضية الأمة وقضية انبعاثها الحديث، الصدق والحب، والفكر والجهد والدم.
ففي الوقت الذي يتملكنا فيه شعور الاعزاز والإكبار لبطولات المقاتلين العراقيين، وللعظمة المتجلية في وطنية الشعب العراقي وتضحياته.. يهزنا شعور التفاؤل والاستبشار، ليقيننا بان ما يتجلى في معركة العراق من عظمة وروح صمود ونهوض، ان هو إلا تأكيد للحالة الانبعاثية التي تمر بها الأمة العربية، والتي بشر بها الحزب قبل اكثر من اربعين عاما، والتي اعتبر ولادته نفسها احد مظاهرها وتعبيراتها.
وجاءت التجربة البعثية في العراق لتؤكد صحة البداية وصدق التصور الاول للبعث. ومعركتها اليوم، تضفي على الذكرى السابعة والثلاثين لتأسيس الحزب، معني الرمز لانتصار روح الأمة على تحديات نهضته، وعلى المؤامرات والاخطار التي تهدد مصيرها وانطلاقها نحو التحرر والتقدم والوحدة والانبعاث الحضاري..
لذلك يحق للبعثيين وللعرب جميعا، ان يفرحوا بهذا النصر الذي هو ثمرة لحالة النهضة القومية التي جسدها العراق تجسيدا حيا، بقيادته الفذة، وشعبه العظيم، وجيشه المقدام، وطلائعه البطلة، والتي تذكر بالمميزات الفكرية والروحية والخلقية التي جعلت مسيرة البعث النضالية مسيرة ذات شخصية موحدة نامية ومتجددة العطاء، بالرغم من التحديات السلبية التي تعرضت لها عبر السنين الطويلة الماضية.
ايها الاخوة المناضلون
ان جانبا من هذه القوة الروحية ذات النزوع الحضاري التي امتلكها البعث، قد كانت نتيجة لاستلهام التراث، ولفهمه فهما حيا تقدميا، كان هو بدوره نتيجة للانطلاق من حالة الحب والاندماج بروح الأمة.. فالتأثر بالدوافع العميقة للإسلام، والفكر العلمي المنفتح على تيارات الفكر المعاصر، قد كانا عاملين أساسيين في بلورة المفهوم الحديث للعروبة. هذا المفهوم المتوازن، المتكامل، الدقيق والعميق.
لقد نمت البذور الاولى للبعث في عهد الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي الممثل، في ذلك الحين، للغطرسة الغربية، وللتعصب العنصري والديني ضد العروبة والاسلام، وكانت حركة القومية العربية الناشئة قد قطعت اول شوط في يقظتها اذ ميزت نفسها وهويتها عن الدولة العثمانية التي حكمت العرب باسم الدين، فكان صراعها مع الاستعمار الغربي من نوع آخر: صراع حضارة وتاريخ وتراث، وعقيدة. وقدر للبعث ان يمثل هذا الطور الجديد من تكامل مفهوم العروبة الحديثة، فكان رجوعه الى الإسلام في مواجهة الطغيان الغربي الحضاري رجوعا طبيعيا وعفويا لم يحتج إلا الى الحس الصادق. وتلك بداية الطريق التي اعطت الحزب اصالته الراسخة، وزودته بالقدرة الخلاقة.
فلقد وجد الحزب في معين الإسلام الذي لا ينضب، اول ما وجد، عروبة الاسلام: العروبة كهوية، وطبيعة، وارض ولغة، وتاريخ؟ والعروبة، كشعب ومجتمع في حالة مخاض وتحفز، والعروبة كثورة، فجرها الاسلام، فاصبحت ثورة انسانية عالمية، واعظم ثورة في التاريخ البشري،والعروبة كرسالة خالدة،لأن الإسلام هو دين هداية للآخرين كان العرب اول من حمل مسؤولية نشره وسيظلون مسؤولين قبل غيرهم عن حمايته ورفع لوائه وتجسيد قيمه في نهضتهم الحديثة.
وعروبة الإسلام لا تتعارض مع إنسانيته وعالميته ومصدره السماوي، بل تسمو بهذه الحقائق وتشرف وتزداد قوة. ونعتقد ان اية امة من الامم معرضة لان تجنح الى الالحاد ما عدا الأمة العربية التي يدخل الاسلام في نسيج شخصيتها وتاريخه،لان الاسلام بالنسبة اليها هو دين وقومية وحضارة. وهل يستطيع شعب ان يهرب من شخصيته ويتمرد على قوميته، ويتنكر لحضارته؟
ولئن وجدت شعوب تنشد الحرية بالانعتاق من الدين، فالأمة العربية تجد حريتها في الفهم المتجدد للاسلام، والمعاناة الحية المتعمقة، لكي تطل على صلة بجذوره وينابيعه، وهي جذور وينابيع عربية، ولكي تبقى جديرة بحمل هذا الإرث القومي الذي جعل منها امة عظيمة ذات ابعاد انسانية..
وهكذا تم شق، طريق النهضة العربية المستلهمة للتراث والمنفتحة على العصر، طريق العروبة الحديثة التي تميزت بشكل حاسم عن الصورة المتخلفة للثورة وللدين وللنظرة الى الانسان والانسانية من جهة،وللمفاهيم المزيفة والسطحية المغطاة برداء التقدمية، من جهة اخرى.
فالبعث والمناضلون البعثيون وجدوا في مرحلة تاريخية تستوجب بمنطق العمل التاريخي، استكشاف الايمان بكل معانيه، بالمعاناة الشاملة، ومن خلال مواجهة اوضاع الأمة العربية في هذا العصر وامام العالم ومجتمعاته الناهضة والمتقدمة، وفي مواجهة التاريخ الضخم للامة العربية، والتراث والرسالة.. لذلك قلنا بانه "لا يفهمنا الا الصادقون. لا يفهمنا الا المتألمون. لا يفهمنا الا المؤمنون، المؤمنون بالله. وهذا الايمان لم نرثه إرثا ولا استلمناه تقليد،ولكن وصلنا اليه بالمشقة والألم. "، وقلنا ايضا: "و لسوف يجيء يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الإسلام، ويضطرون لان يبعثوا فيه معانيه الخاصة إذا أرادوا ان يبقى للأمة العربية سبب وجيه للبقاء.
فالعروبة الحديثة، باستيعابها لروح الاسلام قد وضعت نفسها في مقابل المفاهيم الجامدة، وفي مواجهة النظرة الشعوبية المقلبة بالدين والمعادية للعرب. كما انها باستلهامها لروح الأمة ولروح العصر قد وضعت نفسها في مقابل المفاهيم التقدمية الزائفة، لان العروبة الحديثة، التي انضج البعث منطلقاتها الاساسية، قد تجاوزت بمفهومها القومي الانساني، والقومي الاشتراكي، المفهوم المغربي للقومية: مفهوم التعصب العنصري والتوسع العدواني، وكذلك المفهوم الاممي للاشتراكية، الذي كان يقيم نوعا من التناقض بين الاشتراكية والقومية. فالقومية العربية اصبحت تعني (وحدة الاهداف القومية وتلازمها). وتعني الثقة بالامه والنظرة الايجابية الى الانسان ودوافعه الخيرة، والارتفاع بالسياسة الى مستوى الرسالة. كما تعني (الاستقلالية) التي تؤكد الخصومة ضمن منطق الانفتاح على العالم وتجاربه المعاصرة. كما انها تعني (الانقلابية) التي وضعت امام البعث مهمة احداث تغيير شامل وعميق في المجتمع العربي، وحددت نظرته الى الشعب، هذه النظرة التي تعتبر ان معيار التقدمية الاساسي هو الايمان بالشعب وبجوهره الثوري وحسه الحضاري. وبان عصرنا هو عصر الجماهير المناضلة التي عانت من الاستعمار والتخلف، وان الغرب المستعمر الذي يتقهقر حضاريا، يفسح المجال امام صعود حضارة جديدة تصنعها جماهير العالم الثالث الناهضة،وفي مقدمتها جماهير امتنا العربية التي تتحفز لممارسة دورها الحضاري الانبعاثي في بناء عالم جديد غير منحاز تسوده علاقات دولية قائمة على احترام الشعوب وبحقها في تقرير مصيرها ومصير الانسانية.
فالتصور الاول للبعث، انطلق من القناعه بأن لحظه تاريخيه ثمينه ونادرة تتاح للامة العربية في يقظتها الحديثة، ونضالها التاريخي في سبيل جريتها ووحدتها وتقدمها.هذه اللحظة التاريخية الثمينة هي وجود توافق بين قيم واهداف هذا النضال.
العربي وبين ما تفتقر اليه الانسانية في حضارتها المادية الحديثة من مبادئ وقيم اخلاقية ومحتوى انساني للتقدم، وهذا ما يعطي النهضة العربية ابعادا حضارية عالمية.
كما ان المنطلق الاساسي للبعث، المنطلق النفسي الرحب، منطلق الحب والتجرد، قد صمد وقاوم واستمر، لانه كان يقوم على اساس قوي من الثقة بانه هو المنطلق المطلوب لمجابهة مشاكل، بعمق مشكلات الوطن العربي في هذه المرحلة.
لذلك بدأ البعث وكأنه من طينة اخرى، فهو منذ خطواته الاولى، ناذر نفسه للمستقبل البعيد، وشاعر بانتمائه القوي والعميق الى الارض والى التاريخ، وانه قادر ان يصل الى ضمير الشعب والأمة، وان يفهم الفهم الصادق، وان الزمن يمكن ان يكون طويلا أمامه. ولكنه سوف يحقق رسالته وينجز مهمته التاريخية. فقد تعامل البعث مع الزمن، ومع المراحل، ومع التاريخ، بقصد بناء عمل خالد. فالحس التاريخي في البعث مع الحس الحضاري، جعله ينظر حتى الى ذاته نظرة حية ومن مستوى لم تعرفه الحركات والاحزاب في المراحل التي سبقته ثم رافقت نشأته.. فقد ألزم البعث نفسه بمقاييس صعبة تتطلب منه ان يتجاوز ذاته باستمرار، وان يصعد نحو اهدافه عبر مسيرة طويلة شاقة، وان يكون تعبيرا عن حالة الانبعاث قبل ان يحقق انبعاث الأمة. فلم يكن مطلوبا من حركة البعث وهي في بدء تكوينها، اكثر من تهيئة الجو الفكري والنفسي والاخلاقي لانطلاقة تاريخية للأمة. فالمفاهيم التي اتى بها البعث لم تكن مجهولة تماما. ولكن لم يكن في مقدورها ان تمنح حركة تاريخية لو انها كانت مجرد افكار نظرية، وتجميعا لعدد من الافكار والنظريات. لقد كانت كلا موحدا وعضويا، وكانت نتيجة معاناة مصيرية لضمائر فردية متفاعلة مع مصير أمتها تفاعل حب وانتماء عميق، وموقف انساني حر. فالانتماء الى الوطن والأمة لم يكن حالة عادية، بل لحظة فرح ووعي تقرر مصير الحياة، كما ان روعة اللقاء بالتراث الخالد قد طبعت عمرا بكامله، ونتج عنها ما فاق كل حسبان وتوقع: ان يصحح انحراف مزمن، وان يسد فرغ خطير، فالعروبة لم تعد لفظا مجردا، والحياة الروحية للجماهير العربية، غدت تربة ندية للثورة، بعد ان كانت نقيضا لهذه ومستعصية عليها وقد جاءت تجربة البعث في العراق، ثمرة لنضج تجربته على المستوى القومي، ونموذجا للتعبير الأصيل عن تصور، الأول وخطه التاريخي، وعن قيم النضال الجديدة التي طبعت مسيرته الطويلة..
يا جماهير امتنا المجاهدة
عندما نقول، ان تجربة العراق هي نموذج قومي، فهذا يعني حسب مفاهيم حزبنا، انها حافز للنهوض نحو تحقيق الاهداف القومية، وليست صيغة للنقل والتقليد. فالبعث الذي نظر الى ذاته والى فكرته والى أشخاصه نظرة حية، قد نظر الى هذه التجربة باعتبارها ثروة للأمة. فهي فضلا عن كونها المجال الذي تم فيه التطبيق الصحيح البطولي للافكار، قد كانت بدورها عاملا في.غناء تلك الافكار بشكل مبدع خلاق. الى حد ان الحزب وهو يواكب هذه التجربة يشعر انه يكتشف نفسه من جديد ويتعمق في فهم افكار، واتجاهه وطريقه وإمكاناته، وذلك بالرغم من ان تجربته في العراق لم تعط بعد كل ما تستطيعه، فهي ما زالت تزخر بالقدرة على العطاء المتجدد الاصيل، لانها تنتمي الى الأمة العربية وعبقريتها المبدعة..
وقد وضع الحزب كل اماله في تجربة العراق الثورية، لانه كان مطمئنا الى سلامة تكوينه، واصالة عقيدتها، وصدق انتمائها الى عقيدة البعث. وكان الحزب واثقا ومؤمنا بتجاوب هذه التجربة مع ضمير الشعب، وبان الشعب سوف يزداد التفافا حولها، واندماجا فيها.. وقد قدر لهذه التجربة قائد تاريخي فذ، اوصل هذا التجاوب الصميمي بين عقيدة البعث وضمير الشعب الى اعلى المستويات، فأعطت ما فاق كل الاحلام والتصورات. اعطت نهضة متفجرة بالابداع، وبنت انسانا جديدا متكامل الشخصية. وأكدت صحة الحقيقة التي بني عليها الحزب منذ ولادته، وهي الثقة غير المتناهية بالشعب، ورفض كل ما يخالف هذا المبدأ، وكل ما يوحي بالحط من قدر الشعب وإمكاناته، سواء من ناحية العطاء او الوعي، او القدرة على خوض المعارك الحاسمة.
وقد جاءت المعركة ضد العدوان الايراني المتآمر على نهضة العراق والأمة، لتخلق الفرصة التاريخية انتصار هذه المبادئ. وليعطي عراق البعث الصورة الصحيحة عن العروبة والاسلام في مقابل صورة مشوهة ومتخلفة أدينت عربيا واسلاميا وعالميا.
فالمقاتلون العراقيون، والبعثيون والمناضلون العرب الذين شاركوا في المعركة، كانوا يستحضرون نماذج التاريخ العربي الاسلامي ليدافعوا عن الحياة العربية الجديدة المتحررة الناهضة وعن الاسلام في الوقت نفسه. فكانت فرصة تاريخية أتاحها العدوان الخميني لتخدم ملامح النهضة العربية ومميزاتها وخصائصها، ولتثبت الخيارات الاساسية في هذه النهضة.. لانها نقيض الصورة المتحققة الآن في ايران.
فالظروف والصدف شاءت ان يكون هذا التحدي من حركة الخميني، لكي يعبر البعث عن اعمق أفكاره وتصوراته الوطنية والقومية والانسانية، ولكي يتميز تميزا حاسما وجذريا عن تلك الصورة المتخلفة للثورة وللاسلام وللنظرة الانسانية...
فالعراق الذي طرح دوما موقف السلم والاستعداد للتفاهم، استطاع من خلال الدفاع عن ارضه وكرامته وقيم الحياة التي يؤمن بها، ان يقفز قفزات تاريخية في احكام البناء الاجتماعي والتطور الحضاري، وفي تجاوز الامراض الاجتماعية القديمة، وان يخلق مجتمعا عراقيا جديدا، ومواطنا يصمد لكل الهزات والتحديات في المستقبل، وان يعيد للجماهير العربية ثقتها في قدرات الأمة على مواجهة التحديات المصيرية الراهنة..
يا ابناء شعبنا العربي الأبي
هذا هو حزبكم: حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي طرح منذ البداية جو النهضة وجو الرسالة الذي يكمن فيه الانقاذ وتتحقق فيه وحدة الأمة ووحدة المشاعر والتفكير، وتفجير الطاقات بأقصى حد، الطاقات الخيرة، الحرة والبناءة..
فقد حمل البعث (رسالة العروبة ضد حرفة السياسة) وشق مسيرته النضالية منطلقا من تقرير حقيقة موضوعية، وهي ان امراض المجتمع العربي والمؤامرات والعقبات التي توضع في طريق نهضته، هي بالغة الخطورة ولا ينجح فيها الاصلاح الجزئي السطحي،بل تحتاج الى انقلاب عميق، ونفس طويل، وجهد دؤوب ونضال قائم على الاستعداد العالي للتضحية.. كل ذلك نادي به الحزب تعبيرا عن تصور اولي لازمة الاوضاع العربية، ولكيفية التغلب عليها.
وكان القطر الذي نشا فيه البعث في مراحله الاولى، وهو القطر السوري، بحكم موقعه وتكوينه الاجتماعي، وتفتحه،قد لعب دورا في انضاج المراحل الاولى من النهضة العربية. وعندما دخل هذا القطر معركته مع الاستعمار، كان توجهه نحو الاستقلال جزءا من تطلعه القومي الى الوحدة والنهضة. وكانت بدايات الحزب الاولى قد اقترنت بهذا النضال ضد الاستعمار، وبهذا التطلع الوحدوي. ثم جاءت المرحلة الاستقلالية التي برز فيها دور البعث القيادي، الذي استطاع بنضاله الفكري والسياسي والاجتماعي، مع الشعب، ان يعبر عن التطلعات العميقة لشعب سورية العربي، وان يجعل من دور سورية القومي، رائدا في تحقيق اول وحدة عربية في عصرنا، بعد قرون من التجزئة، وبالاشتراك مع قيادة البطل القومي جمال عبد الناصر.
ولكن هذا الدور القومي لسوريا، قد تعرض للتشويه والتعطيل والتزوير. فقد جاء الانفصال ليكشف عن المرحلة الاولى من التآمر، ضد الوحدة، وحزبها، وجماهيرها، ورموزها..
ثم جاءت ردة شباط 1966، لتكمل حلقات المؤامرة على دور سوريا القومي الوحدوي. ولم تكن صدفة ان تشترك الرجعية العربية، والتقدمية الشعوبية في التآمر الصريح على هذا الدور التاريخي. وان يأتي نظام الردة في ثوب مزور، منتحلا اسم البعث لتغطية الدوافع والمرامي التي تحركه. لان المؤامرة كانت كبيرة بحجم الدور الذي كانت تنهض به سوريا العربية، وحتى يختفي الوجه الايجابي، ويظهر وجه آخر: الوجه الشعوبي الطائفي الذي لا يعبر في شيء عن الحقيقة الناصعة لهدا القطر العربي، لا بل هو نقيضها..
ان الطريقة التي توسلها الشباطيون للوصول الى السلطة بأن استخدموا التكتل الطائفي، ووصموا طائفة بكامله،وورطوها فيما لم تكن تريده ولا تجهل محاذيره، هذه الطريقة الرخيصة المنحرفة والخطرة، كان واضحا ومعروفا انها ستثير رد فعل عند طوائف أخرى، وستدفع فئات كثيرة لان تلجا الى الاسلوب نفسه في إثارة الشعور الديني والطائفي عن قناعة او بدوافع انتهازية. وفي كل الاحوال كان واضحا ومعروفا منذ البدء، ان حكم الردة الشباطية لن يكون مقبولا من الشعب، لأنه يتناقض مع طبيعة البعث ومع طبيعة سوريا ودورها القومي.
وهكذا فان التآمر على البعث كان يهدف بالدرجة الاولى الى إلغاء دور سوريا القومي والتحرري التقدمي المستقل، المتصل بتاريخ النهضة العربية، وبمرحلة النضال ضد الاستعمار، وبالمد الشعبي الوحدوي الذي اوصل الى الوحدة. لذلك كان النهج الثابت للفئة المرتدة، هو: معاداة الشعب، وتحطيم الروح القومية التي تميز بها القطر السوري، وتغذية الامراض التي تبذر بذور الانتقام، وتعميق الهوة بين ابناء القطر الواحد.. وبين سورية والاقطار العربية الاخرى، بدءا بالقطر اللبناني، وانتهاء بالموقف الشاذ المنحرف من المقاومة الفلسطينية، ثم من معركة العراق ضد العدوان الايراني.
لقد حاول هؤلاء المنحرفون ان يرتكبوا جريمة تحويل البعث، الذي كان الحركة الوحيدة المحصنة منذ البداية ضد الانحرافات الطائفية، الى حزب اقليات لكي يخسر الى الابد امكانية كسب الجماهير العربية وثقتها. وخاض البعث معهم معركة معقدة وقاسية، واضطرهم الى فضح مخططهم قبل ان يستكمل مراحله فشهروا السلاح في وجه الحزب معلنين بذلك فشلهم في احتوائه، وبعجزهم عن مواجهة فكر البعث وايمان مناضليه..
وهكذا سلم الحزب وبقي كما اراد لنفسه ان يكون: حزب كل العرب، حزب المستقبل العربي، الا ان القطر الذي ولد فيه البعث ونما، فرض عليه منذ ذلك الحين ان يعيش مرحلة من اشد مراحل تاريخه ظلاما، امتدت طوال السنين الثماني عشرة الماضية، تمكن خلالها نظام الردة الطائفي الفاشي من ارتكاب الجرائم المنكرة بحق سوريا وشعبها وجيشها الوطني، وبحق الأمة العربية وقيمها ومقدساتها.
لقد حول حافظ اسد سياسة هذا القطر الى لعب وشطارة بالاشتراك الضمني مع الاعداء، والى تهديدات ومعارك في الفراغ، وانتصارات وهمية في الصحف.. فمن ذلك محاولته تغطية تراجعه امام العدو الصهيوني وهو يجتاح لبنان ويطوق بيروت، بحجة فقدان التوازن الستراتيجي.. وكانت لعبة مكشوفة مفضوحة. وهو الآن يتخذ من إلغاء اتفاقية أيار المشؤومة بين الحكومة اللبنانية وبين العدو الصهيوني ورقة سياسية لدعم مركزه في عملية التسوية.
ان إلغاء اتفاقية أيار، عمل ايجابي ارتاحت له الجماهير العربية في كل مكان، ورحبت بتخلص لبنان من الهيمنة الاسرائيلية والأميركية، ومن هيمنة الطائفية الفاشية في حزب الكتائب، ولكن الجماهير العربية، تدرك ان تعامل نظام حافظ اسد مع الغاء هذه الاتفاقية يتم ضمن المسار العام لنهجه الاستسلامي المساوم. كما تكشف الخدعة في الاسلوب الذي يغطي المؤامرات بالشعارات وبالمواقف الاعلامية المناقضة لمضمونها الحقيقي.. فهو النظام الذي يغذي التجزئة والانقسام، باسم الوحدة، ويمارس التبعية ويرهن قضايا الأمة التحررية. باسم الحرية، وهو يتحالف مع الرجعية باسم التقدمية، ويحارب في صف الشعوبية ويدعم العدوان الايراني على العراق، باسم القومية العربية وتحرير فلسطين.
فالجماهير لا يمكنها الا ان تتذكر هذه الحقائق، وبالتالي ان تستمر في كشف الأعيب هذا النظام،وفي النضال من اجل جعل إلغاء اتفاقية ايار مقدمة حقيقية لإلغاء وإفشال مؤامرة كمب ديفيد، لان بالنضال وحده، وليس باللعب السياسية المفضوحة يمكن ان يتحرر الوطن، وتتوحد فئاته، وان يتقدم المجتمع العربي، وان تنهض الأمة من هذه الاوضاع السلبية التي كان للنظام السوري اليد الطولى في صنعها. فالجماهير تدرك ذلك كله، وتدرك ان النضال العربي الجماهيري وحده، هو السبيل لانقاذ سورية والأمة العربية من الاوضاع المتردية التي وصلت اليها. فنضج مستوى الوعي عند شعب سورية العربي، كان كفيلا بكشف أبعاد الدور الاجرامي لهذا النظام، وتشويهه لحقيقة الجيش السوري الوطني، كما كان كفيلا بكشف توريطه للطائفة، واستغلاله لها، في اغراض لا تخدم مصلحة الوطن والأمة.. هذه الطائفة التي لا يجوز ان تؤخذ بجريرة تلك الفئة المغامرة المتآمرة.
كما ان هذا الوعي هو الذي أشار دوما الى الحل الناضج المنسجم مع روح سوريا العربية، ومع دورها القومي الوحدوي، والذي لا يمكن ان يكون غير الحل الديمقراطي التقدمي الذي يؤمن بالحوار، وبان العروبة هي الأم، وان الشعب العربي هو شعب الرسالة الحضارية، فهو للمستقبل، وليس لعقد واحقاد سببتها ظروف شاذة في الماضي نتيجة لتسلط الاجانب على مقدرات الأمة: فالقطر العربي السوري، لا يمكن ان يتخلى عن هذا الدور القومي الطليعي، لانه التعبير الاكثر اصالة عن وعيه لمسؤوليته القومية في النهضة العربية المعاصرة. وهو وعي شامل لكل فئاته وأبنائه ومناضليه، وهم يتطلعون اليوم الى إنقاذه من محنته، ويستعدون لتوحيد الجهود والنضال من اجل اعادة سوريا الى مكانها الطبيعي في مسيرة الانبعاث القومي، وينظرون بتفاؤل وثقة نحو المستقبل، لان هذه المسيرة قد صمدت للتحديات وانتصرت عليها في العراق. فالعراق يذكر اليوم بأنصع الفترات، وبالحالات النادرة في التاريخ العربي.. فهو في حالة نهضة اصيلة، واكبر دليل على ذلك انه يخوض منذ اربع سنوات حربا دفاعية عادلة لا يزيدها الزمن الا عمقا وتألقا في الوعي، وفي الشعور، وفي العطاء وفي الخبرة، وفي نضج التجربة الانسانية.. وهكذا تبرز صورة البعث الاصيل في العراق.. في حين تؤكد ممارسات نظام حافظ اسد زيف انتسابه الى العروبة او الى كل ما يمت للبعث بصلة. ان وقوف نظام حافظ اسد مع ايران ضد العراق هو كبيرة الكبائر، ولطخة العار التي لا تمحى، وهو عار لا يمكن التخلص منه، وتبرئة ا لأمة من آثاره، الا بموقف عربي صريح وفعال الى جانب العراق، وبعزل النظامين السوري والليبي عزلا تاما وادانتهما، وتبرئة الضمير العربي منهما..
فلا بد من التخلص من النظام السوري الراهن اذا اردنا تصحيحا سريعا لخط سير العمل القومي، وانتقالا به الى مرحلة أعلى من النضال، تعيد لسوريا وجهها العربي التقدمي الديمقراطي، وتعيدها الى المستوى الناضج الذي دفعت -في الماضي- للوصول اليه ثمنا غاليا واجيالا من الشهداء. وعندئذ يولد النظام المنسجم مع طبيعة هذا القطر، ومع دوره القومي، وبالتالي مع المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي اللائق بسوريا الذي يجعل من الممارسة الديمقراطية السبيل القويم الى تصحيح اثار المرحلة السلبية الراهنة، وحيث تنتفي ردود الافعال، وتتضافر الجهود الخيرة لجمع الفئات والطوائف والاحزاب، للمساهمة الايجابية في تحقيق هذا الهدف القومي التقدمي الكبير.
ايتها الجماهير العربية المناضلة
انه لمن دلائل تقدم التجربة العربية ونضجها هذا الحس الشعبي العام المتزايد الذي يعلن عن نفسه في اوقات الازمات الحادة، والظروف الحاسمة، عندما يحكم حكما سلبيا على المواقف الشعوبية المقنعة بالتقدمية، ويكشف بطلان ادعائها، كما وضح من تاييد الضمير الشعبي في عموم الوطن العربي للعراق في معركته ضد العدو الايراني وللمقاومة الفلسطينية، ومنظمة فتح في وجه محاولة شق وحدتها من قبل النظامين السوري والليبي.
ان المزيفين الذين شوهوا التقدمية، والذين اتخذوا منها ستارا للتسلط، ولاغراضهم الخاصة، قد تقاسموا مع الرجعية عملية استغلال الاوضاع العربية، وتشويه التطور الاصيل للمجتمع العربي.
وقد كان السلاح الاكثر خطورة في عملية التزييف، هو المنطق الذي يبيح استغلال الطوائف لأغراض سياسية. وكان لبنان المسرح الاكثر مأساوية لهذا الاستغلال. فالطائفية كمفهوم سياسي تجزيئي ومتخلف هي من صنع الاستعمار والصهيونية والشعوبية،وركن اساسي في مخططات اعداء الأمة العربية. وقد بدأت الطائفية السياسية المستغلة للدين في لبنان، عندما تسللت الثقافة الاستعمارية وسادت مثقفيها نزعة الاغتراب داخل الوطن.. وعندما تبلورت فئات طبقية اصبحت لها امتيازات، فوجدت في إثارة النعرة الطائفية السياسية، اقرب الطرق لحماية مصالحها، وتوسيع استغلالها ومد سيطرتها على الطائفة والوطن ان هذا الوجه الطائفي القبيح الذي اصطنعوه للبنان، لا يرجع الى اكثر من السنين الثلاثين الاخيرة.. فالتاريخ يقدم لنا صورة عن لبنان آخر، صورة الموارنة أنفسهم كجزء من الشعب العربي وكمساهمين اوائل في حركة النهضة العربية والذين عرفوا لبنان قبل تسلط الفئات الانعزالية الفاشية عليه، كانوا يرون فيه لبنان المحبة والشيم العربية، والتفاعل القومي، والانفتاح الحضاري..
وهكذا فان المخطط الذي اعتمدته "اسرائيل" بنهج ثابت منذ اغتصابها لفلسطين لتعميم التجزئة الطائفية وإشغال العرب بتناقضات مفتعلة، ثم التأثير الواضح للنظام الشعوبي الايراني في تغذية العصبيات الطائفية واستغلالها لهدم صرح الوحدة القومية للعرب.. كل ذلك قد انضاف اليه تدخل نظام حافظ اسد في لبنان، الذي زاد في تعميق هذا المرض،لأن الذي يحكم سوريا حكما طائفيا لا يمكن ان يكون مع لبنان موحد عربي، وناهض. فلا مستقبل للبنان الا من خلال مفهوم النهضة العربية المؤمن بالديمقراطية، وبالتعددية،وبالحوار..
وفي المغرب العربي تحاول القوى المعادية ذاتها، ان تنفذ نفس مخطط التفتيت الذي تمارسه في مشرق الوطن. غير انها تركز في هذا الشطر العزيز من الوطن الكبير على اصطناع وافتعال التناقضات المندثرة بين العرب وبين بعض الاقليات القومية، بما فيها تلك التناقضات التي ذوبتها حرارة النضال الموحد ضد الاستعمار والتفاعل الثقافي والحضاري عبر القرون والتاريخ المشترك في إيصال الرسالة العربية الاسلامية الى شواطئ الاطلسي واوربا. واذا كانت محاولات استغلال المشكل الموهوم بين العرب والبربر قد باءت بالفشل، فان اعداء الأمة التاريخيون، من استعماريين وصهاينة، ما يزال يحاول تأجيج الصراعات بين الأقليات القومية والعرب في موريتانيا والسودان، وينظر للانفصال فيهما، ويثير الصراعات الجهوية في اكثر من قطر، ويعمل بشتى الاساليب المباشرة والملتوية للحيلولة دون ايجاد حل لمشكل الصحراء يوفر طاقات اقطار المغرب العربي لمعارك البناء الداخلي وقضايا النضال القومي المصيري، ويكفل وحدة جماهير المغرب العربي، دون تجاهل لخصوصياتها.
ان العروبة كتيار تقدمي، وحركة تاريخية، تحمل الحب للجميع، وتعود بالمساواة والعدل على الجميع، وهي التعبير الاعمق والتجسيد الحي. لحاجات النهوض في المجتمع العربي في حاضره، وفي المستقبل الذي يتحفز لبلوغه. لان العروبة الحديثة هي التجديد الحي للانتماء، والنظرة العلمية الى الواقع، والروح الانسانية التي تقود النهضة القومية نحو الرسالة الحضارية.
ونعتقد ان مفهوم العروبة الحديثة، كما طرحه البعث منذ تأسيسه، والذي تطور وتبلور مع تطور مسيرة النهضة العربية المعاصرة، هو العلاج للأوضاع السلبية المرحلية التي يشكو منها الواقع العربي، او التي فرضت فرضا مصطنعا عليه.. العلاج لعزلة الاقطار والطوائف، وللصراعات الداعية التي يفتعلها الصهاينة والامبرياليون والشعوبيون، في لبنان، ولقضايا الاقليات القومية في الوطن العربي، مشرقه ومغربه.. لانها سوف تكون في حالة نهضة مع الأمة الناهضة.
فالبعث لم يكن يجهل مواطن الضعف في المجتمع العربي.. لان البعث لم يبدأ من نقص الاطلاع، ولا من تبسيط الامور، تهوينها. بل كان يعرف مواطن الداء، وخطورة الآفات، وبخاصة عندما يترك كل قطر لنفسه ومصيره، ولا يكون ثمة مرجع عربي او قيادة عربية تمتلك حق القرار في الظروف المصيرية. ولكن الحزب اكد على الحل وطريق العلاج، وهو:،نقل العرب الى مستوى حي وحار وعميق من النضال، يلتقي فيه العرب بذاتهم الحقيقية، ويكتشفون تفاهة وعقم عوامل الانحطاط المترسبة في المجتمع العربي، فيتجاوزونها، ويبنون واقعا عربيا جديد.
فاذا كان من درس يستخلص من حالة التردي الراهنة، ومن نصيب الاعداء في صنعها وفي اذكائها.. فهو في ان نتعمق في دراسة الخصوصيات السلبية للاوضاع العربية، بمنهج علمي ثوري، حتى نعمل على خلق مستوى جديد للنضال القومي كفيل بتذويب تلك السموم، وتعميق نفسية الفرد العربي،وشدها الى الاهداف الكبرى، والى المعنى الاصيل للحياة.
فالجماهير على امتداد الوطن العربي،وكل ما ينتظمها من فئات وطوائف تملك الاستعداد لتكون في جو النضال عندما تتوفر القيادة والارادة الواعية.. فامراض الطائفية وغيرها لم تمنع الشعب العربي في معظم اقطاره من التحرر من الاستعمار رغم محاولات الاجنبي استخدام ورقة تلك الامراض والنعرات، لان روح الكفاح الوطني كانت ترتفع بالجميع فوق الاعتبارات الموروثة من عهود الانحطاط،لتذكرهم بانتمائهم العميق الى الأمة وبدورهم في حركة انبعاثها الحديث.
ان العمل باتجاه النهضة، وتكوين قوة عربية، تستطيع ان تفرض الحلول وتردع الاعداء، والإلحاح على العمل النضالي، عمل المفكرين والاحزاب والنقابات، المتجه نحو وحدة النضال، وضرورته الحيوية بالنسبة للمصير القومي، هو المنطلق الصحيح لمعالجة الوضع العربي الراهن. لذلك كان من الطبيعي ان تتطلع الجماهير في الوطن العربي، الى الخلاص من اوضاعها المأساوية، بالتمسك بطريق وحدة النضال،طريق التقدم الاصيل، طريق الحرية، طريق تحرير فلسطين.
ايتها الجماهير المناضلة
ان القضية الفلسطينية، هي قضية تحرير فلسطين، كجزء له مكانة مميزة من وطن كبير تعرض للاغتصاب والاحتلال والتجزئة. وهي في الوقت نفسه، قضية تحرر الأمة العربية ونهضتها ووحدتها.. لذلك اتخذت القضية الفلسطينية بحق هذه المكانة في النضال العربي، وفي التصور الثوري للنهضة العربية. بانها القضية المركزية، التي يفترض ان يكون تبنيها، والاضطلاع بما ترتبه من مسؤوليات نضالية،هو الموجه لسياسة كل قطر عربي، والموجه للسياسة العربية القومية.. وهي عندما تكون الموجه لسياسة الاقطار، ولنضال المناضلين، تصبح هي الوحدة. اي معركة الأمة. لذلك كانت فلسطين طريق الوحدة، وكانت الوحدة طريق فلسطين.
فاذا كان ظهور المقاومة الفلسطينية وثورتها المسلحة قد جاء تعبيرا عن مستوى اكمل واكثر نضجا من مستوى كل الحركات والثورات التي قام بها شعب فلسطين، عبر نضاله الطويل، فانها في الوقت ذاته، كانت تعبيرا اصيلا عن روح التحدي وجوابا على النكسة القومية التي خلقت حالة من الضعف والانكسار النفسي ما يزال العدو الصهيوني يستغلها منذ الخامس من حزيران، لضرب كل محاولة لبناء قوة عربية تعيد للأمة توازنها وثقتها بالمستقبل. لذلك نظرت الجماهير العربية الى المقاومة الفلسطينية، كطليعة مقدامة في الثورة العربية، متوجهة نحو تحرير فلسطين، وبقية تتعاطف معها على هذا الاساس، وتنظر الى صلابتها في مواجهة التحديات الداخلية والخارحية، باعتبارها التجسيد لحيوية شعب فلسطين، وإيمانه بحقه، وثقته امته، وهو ينهض بدوره الطليعي في النضال القومي لتحرير بلاده.
فالصمود البطولي للمقاومة الفلسطينية امام شتى المؤامرات والمحاولات المتكررة لتطويقها، وتفجيرها من الداخل، او تشويه جوهرها الثوري.. يبرز المعاني الايجابية لكفاح المقاومة، بالرغم من كل ما اعترى هذا الكفاح من ثغرات، وما داخله من ردود فعل على أزمات الواقع، والنضال العربي.
كما ان صمود الشعب العربي، في الارض المحتلة هو كذلك معيار اساسي، وضمانة رئيسية، لتوجه المقاومة التي تعمل خارج فلسطين، وفي ظروف صعبة ومعقدة، ومعرضة للتشويه. لهذا فان الصلة الدائمة بنضال الشعب في الارض المحتلة، واستلهام ارادة هذا الشعب وقوته وقدرته على الصمود والفداء، هو الذي يجد د روح الثورة في المقاومة، كما يعزز الثقة بقدرات الأمة عند الشعب العربي في كل مكان.
فالجماهير العربية لا يمكن ان تيأس من نفسها، وهي اليوم تتطلع الى المستوى الجديد للعمل وللنضال، وتتحفز الى انضاج هذا المستوى، الذي يحرك القوى، ويسيطر على الظروف، ويستثمر الانتفاضات العفوية ويضمن لها التوسع والديمومة بدلا من ان تنطفئ وتبقى في الحدود الضيقة. الا ان التحرك الجماهيري الفاعل الذي يضع النضال الفلسطيني والنضال الوطني في كل الاقطار على علاقة عضوية بالنضال القومي العام، لا يمكن تصوره دون تخطيط وتنظيم وقيادة، على مستوى قومي. وما دام العراق قد استطاع ان يبلغ هذا المستوى، فان الجماهير العربية في باقي أجزاء الوطن العربي لابد ان تصل.
ياا بناء شعبنا العربي
ياا بناء مصر العروبة
لا يمكن ان نتصور مستقبل العرب بمعزل عن مصر وعن دور مصر. وقد تميز البعث بالتأكيد على هذا الدور، وبالكشف عن ابعاده، منذ نشأته الاولى. لان اللقاء الاول للبعث كان مع مصر، في صنع اول وحدة عربية معاصرة.. مع مصر الناهضة المتحررة، ذات العمق الحضاري، والشخصية العربية،مع مصر الزعيم الخالد جمال عبد الناصر.
فقد التقى التيار الجماهيري العارم في كل من سوريا ومصر بقيادة البعث وعبد الناصر، وقامت تجربة كان مقدرا لها ان تنجح وان تستمر وان تتطور، لو لم يوضع حل حزب البعث كشرط لقيام الوحدة، فقد طعن الاساس الديمقراطي لبناء الوحدة منذ بدايتها.
ان يقين البعث كان راسخا منذ البداية بان التجربة الوحدوية تحتاج الى أوسع مشاركة ديمقراطية نضالية وعلى مستوى قومي لكي يضمن لها النجاح.. وكان البعث يدرك ان علاقة عبد الناصر بالجماهير كانت علاقة عفوية ولم تكن قائمة على بنيان تنظيمي ثوري محكم. لذلك لم يرتفع بناء الوحدة الى مستوى ما تنطوي عليه من طاقة هجومية أثارت مخاوف الاستعمار والامبريالية، وأشاعت الذعر في صفوف الصهيونية والرجعية والشعوبية.
ففي جو سوء التطبيق، نجحت القوى المعادية في ضرب التجربة الوحدوية، وهي القوى التي تجمعها مهمة ثابتة هي تخريب النهضة العربية. لذلك لم تدخر وسيلة الا واستخدمتها. وفي هذا الجو ولل ت الردة في ادمعة وضمائر بعض الأفراد المغامرين، المعقدين، المهيأين للتفريط بقضية الأمة والتآمر على مستقبلها، في سبيل إرواء طموحهم الى السلطة واحقادهم.. فكان نظام الردة في دمشق، ثم نظام السادات بعد رحيل عبد الناصر.
وقد جاءت ادوار النظامين منسجمة مع مصالح المخطط الاستعماري والصهيوني، الذي عمل على استغلال نقاط الضعف في الواقع العربي، وعلى تمزيق لحمة الكيان القومي وخلق التناحر والفوضى، والحالة النقيض للوحدة: فالذي استغل في مصر، هو الشعور الخاطئ بالاكتفاء الذاتي نتيجة نقص الوعي، ومحاولة عزل مصر فكريا وحضاريا عن الأمة العربية، بإنعاش المفاهيم الاقليمية الضيقة، التي تعمل على عزل مصر عن شخصية الأمة. كما استغل واقع تضحيات مصر السخية وعطائها الكبير في الحروب مع العدو الصهيوني في ظل اوضاع عربية رسمية متنكرة لتلك التضحيات البشرية والمادية، ومقصرة عن مستوى التضامن والتكافل بين الاقطار العربية.. استعل ذلك كله للدعوة الى التخلي عن النضال وعن دور مصر في العمل القومي، في حين ان ما من دور متميز وأصيل يمكن تصور، لمصر خارج اطار النهضة العربية.
لذلك كانت مرحلة السادات بمثابة النقيض لمرحلة عبد الناصر، فهو بدلا من ان يوظف مزايا مصر وخصوصياتها الايجابية، للتقدم ولمواجهة الاعداء، وللقيام بدورها الطبيعي الرائد في الحياة القومية، اي بدلا من ان يركز على القوة الذاتية للقطر، التي برزت باجلى صورها في كفاءة الجيش المصري القتالية في حرب تشرين، من اجل خدمة القضية العربية، فقد وضع تلك المزايا في خدمة المخططات الاستسلامية. فكانت زيارة السادات للقدس انتهاكا للمحرمات القومية،وكانت الاتفاقية المشؤومة كمب ديفد، هذا القيد المذل الذي جلب الكوارث، عامل تصعيد للحرب الاهلية في لبنان وعاملا مشجعا للعدوان الايراني على العراق، وللغزو الصهيوني للبنان، ثم التجرؤ السافر والخياني للنظامين السوري والليبي على قدسية القضية الفلسطينية وعلى المقاومة التي تجساها في النضال.
بعد هذا التردي، كان العرب على امتداد وطنهم الكبير، يتطلعون الى وضع حد للتدهور، والى موقف يشكل بداية الصعود، ويكون فيه الحل القومي للأمة والحل القطري في كل قطر عربي.. هذا الحل الذي يتمثل بوحدة النضال العربي وبالتضامن العربي الشامل، وينقل الجماهير العربية الى جو التعبئة الذي تستطيع هذه الجماهير من خلاله ان تتغلب على الكثير من معوقات النضال في داخل اقطارها، سواء كانت داخلية ام خارجية، ويكفل عودة مصر الى دورها القومي النضالي.
واذا كان البعث اول من بادرفي الرد على السادات، فانه قد كان له السبق بعد مقتل السادات، الى التبصير بحقيقة الواقع الجديد.. فاعتبر ان زوال السادات كفيل بان يرفع كثيرا من التزييف والتزوير الذي فرض على ارادة مصر. وبان امام مصر فرصة كبيرة نادرة لان تقضي على أثار ذلك التشويه. وان هذا يتطلب مساهمة جميع القوى العربية الشعبية، لمساعدة مصر وشعبها على تجاوز هذه الحالة التي اوقعتها في قيود معسكر اعداء الأمة.
فموقف الحزب من مصر، وعودة مصر، هو موقف ثابت، لان البعث ينظر الى المصلحة القومية المجردة، ولا يتأثر باي مؤثر خارج المبادئ.. وهو يحتفظ دوما بثقته الكاملة بوطنية شعب مصر وبصدق انتمائه العربي، وبان ما فعله السادات في فترة حكمه لم تتجاوز تأثيراته الخطيرة حدود طبقة من أصحاب المصالح والفئات الطفيلية الذين لا تربطهم اية رابطة بالوطن ومصيره، وبالأمة وقضاياها، مع عدد محدود من الذين خدعوا بوعود السادات الديمقراطية، ثم انكشفت لهم الخدعة..
وقد ادرك الحزب ايضا بعمق: ان مقتل السادات كان قرارا من الشعب المصري بكامله، وبكامل تاريخه الوطني ووعيه لمستقبله ضمن النهضة العربية.
فالبعث يؤمن بان هذه الفرصة التي صنعتها مصر بيديها، يجب ان تكون بداية لمرحلة جديدة لا بالنسبة لمصر وحدها، بل للوطن العربي كله، عندما تعود مصر بجماهيرها الواسعة، وثقلها الحضاري، والتجربة الناضجة لفئاتها المناضلة والمثقفة، بعد ان عاشت امجد فترات المد التحرري الوحدوي في عهد جمال عبد الناصر. كما استخلصت الدروس من معاناتها من الثغرات التي انتابت ذلك العهد.
وقد عبرت مصر عن ارادتها بالعودة الى دورها، وعن تصميمها على ذلك، من خلال مواقف جماهيرية واسعة ذات دلالات عميقة، تجلت في المعارضة الشعبية المبكرة لسياسة السادات الاقتصادية والاجتماعية، وفي رفض معاهدة الصلح مع العدو ومقاومة مؤامرة التطبيع، وكذلك في مظاهر التأييد لقضايا النضال العربي
ووحدة المصير التي تنكر لها السادات عندما اخرج مصر من ساحة الصراع المصيري مع الاعداء. فقد شملت تلك المواقف المشهودة تأييد العراق ضد العدوان الخميني، واستنكار ضرب العدو الصهيوني لمفاعل تموز النووي، والاحتجاج على الغزو الصهيوني للبنان، والوقوف الى جانب المقاومة الفلسطينية ابان محنتها في طرابلس، وهي بذلك كله قد طرحت امام الجماهير العربية والقوى العربية الثورية على امتداد الوطن العربي، مسؤولية دعمها للخروج من وضعها الشاذ، والعودة الى دورها الطبيعي.
ان الرأي العام العربي، بل والاسلامي ايضا، قد اصبح موقفه واضحا.. فهو مع العراق في معركته ضد العدوان الايراني، ومع شرعية المقاومة الفلسطينية، المعتدى عليها من الانظمة المنحرفة. وهو ايضا مع عودة مصر. العودة التي تساهم في تصحيح الاوضاع العربية، والاوضاع والظروف التي وضعت فيها مصر ابان عهد السادات. ان كل عوامل التردي وكل مؤامرات الاعداء، وعملاء الاجنبي من حركات وتكتلات طائفية شعوبية، ومصالح رجعية آثمة عجزت عن ان تحجب صوت الضمير العربي الداعي الى تصحيح اثار مرحلة سلبية بكاملها، وعزل الانظمة الخائنة، والمضي قدما في طريق الصعود نحو تحقيق الاهداف الكبرى لامتنا العربية.
يا ابناء العروبة البواسل
ان بعث الأمة العربية حقيقة يؤكدها الماضي والحاضر وإرادة المستقبل،كما تتجلى في نضال جماهير هذه الأمة، ويؤكدها تاريخ قرنين من النشاط الفكري والسياسي، ومن الثورات الوطنية والاجتماعية، ومن العمل الصحفي والأدبي والفني تميزت بها مراحل النهضة في وجه المؤامرات والتحديات، التي بلغت في السنوات الأخيرة حدا من التركيز والعدوانية والهول، لم تعرفه النهضات القومية من قبل.
ان ابرز ما في هذا الصمود من معاني ودلالات انبعاثية، يتجسد في ثورة العراق، وفي تجربته الصاعدة، وفي معركته البطولية الخارقة. وفي قيادته الشجاعة الحكيمة، وفي قائده البطل القومي صدام حسين.
فعلى امتداد اربع سنوات، شعت صورة النهضة من خلال المعارك والملاحم البطولية التي يخوضها العراق شعبا وجيشا وقائدا، ويحقق فيها النصر تلو النصر.. هذا النصر الذي لم يأت عفوا ولا مصادفة، ولكنه كان استحقاقا، لانه كان ثمرة لتجربة ناضجة بناها الحزب في العراق على امتداد اكثر من خمسة عشر عام، تجسدت فيها بشكل واسع اهم أفكار الحزب وسمات النهضة العربية.
فانتصار العراق هو تعبير عن هذا النضج في تجربة الأمة الثورية وفي تجربة العراق المناضل، على الاصعدة الفكرية والتنظيمية والنضالية والروحية والخلقية.. ومن هنا كانت حتمية انتصار العراق الآن، وفي المعارك التي تفرضها التحديات التي تواجه الأمة العربية وبخاصة معركتها ضد الصهيونية وكيانها المغتصب. وهذا الانتصار، هو ايضا دليل على حتمية انتصار الثورة العربية في باقي اجزاء الوطن الكبير.
فالبعث يحمل راية الأمة وهي تنبعث من جديد، من خلال الآلام والنضال والعمل التاريخي، راية المبادئ التي تجسد روح الأمة، راية القومية العربية، راية العروبة والإسلام، راية الجماهير المناضلة الكادحة. راية الانقلابية، والحرية، والاستقلالية، راية الحوار الحضاري مع العالم.. هذه المبادئ التي امتحنت بالعمل خلال مراحل نضال البعث. وجاءت هذه التجربة العربية الثورية المشعة في العراق التي تبرز على مستوى التجارب العظيمة في العصر الحديث لكي تجذّر هذه المبادئ في ارض الواقع وتعمق الايمان بها، وتغرسها في ضمير الشعب، وقد كانت معركة العراق التعبير الاكثر نضجا وتألقا عن تلك المبادئ.
لقد جاءت تجربة العراق الثورية دليل نظرة منفتحة على المستقبل تعد لمراحل ايجابية للنهضة العربية، وتعبر عن ثقة الأمة العربية بنفسها وبدورها الحضاري من خلال موقف مبدئي ثابت. موقف الاستقلالية المعبر عن منطلق اساسي مميز لفكر البعث. فالعراق وهو يخوض هذه المعركة البطولية ضد العدوان الخميني في ظروف عربية ودولية بالغة القسوة والتعقيد والخطورة،استطاع ان يحافظ على نهج الاستقلالية الذي ميز تجربته القومية الثورية منذ البداية، وكان ذلك بكل المعايير انجازا تاريخيا، لم تتصور الدول الكبرى او النامية، ان بلدا من بلدان العالم الثالث يقدر عليه في مثل تلك الظروف وفي هذا العصر الذي تشتد فيه حركة الاستقطاب الاولي.. كما اكدت هذه التجربة اصالتها من خلال التصرف الحكيم الذي تميزت به قيادة المعركة ونظرتها المتفائلة الى المستقبل، وتهيئتنا الشروط المساعدة على قيام حوار ايجابي مع شعوب ايران وتمهيدها لعلاقات جوار سليمة، ولانهاء صفحة الاحقاد والاطماع، وإرساء علاقات صداقة ونضال وطيد مع المعارضة الشعبية الايرانية،وذلك انسجاما مع منطلق البعث في النظرة الانسانية،اي مع طبيعة النظرة القومية للبعث المتحررة من كل اثر للضيق والتعصب والعنصرية،وكذلك مع نظرة البعث الى علاقات الأخوة والنضال المشترك بين الأمة العربية والشعوب الاسلامية من اجل التحرر والسيادة والتقدم ومن اجل بناء عالم حضاري جديد. وهي اخيرا انتصارات تشق الطريق نحو مستقبل صاعد وثابت للامة في مسيرة انبعاثها القومي.
فالارادة التاريخية الواعية للرفيق القائد صدام حسين المستوعبة بعمق لطاقات الشعب ومتطلبات تفجيرها قد جعلت العراق في حالة صعود متواصل بالرغم من كل التحديات التي واجهتها ثورته خلال الستة عشر عاما، وبخاصة في سنوات الحرب الاخيرة.
فهذه التجربة الثورية تتقدم بثبات وبشكل غير قابل للرجوع، لان هذه الارادة التاريخية الواعية التي تميز بها الرفيق صدام اقترنت دائما، في كل معارك البناء والحرب،بالتصميم القوي على النصر، ولأنها استهدفت تعميق روح النضال في الشعب،منطلقة من الثقة العميقة بالجماهير وبما تختزنه من الطاقات والقدرات النضالية اللا محدودة، كاشفة ومحركة استعداد الشعب المشبع بأمجاد التاريخ وتراث النضال وإرادة الانبعاث والنهوض..
ذلك انه في كل مرة يكون فيها التصميم قويا والثقة بالشعب غير متناهية، يصبح النصر هو الثمرة الأكيدة لكل معارك الأمة في السلم او الحرب.
ففي الحالة الانبعاثية التي يمر بها العراق اذن، تكمن روح النهضة الجديدة في الأمة. هذه الأمة الغنية بالم