د.دندشلي - جولة في دور النشر اللبنانيّة - دار الحقيقة
مقالات و تحقيقات /
أدبية /
1972-02-16
جولة في دور النشر اللبنانيّة(1) ..... تحقيق : د. مصطفى دندشلي
1ـ دار الحقيقة :
مؤلفات الكتاب العرب في الموضوعات الاجتماعيّة نوع من الترجمة بتصرف عن الكتب الأجنبيّة .
إنّ البحث في أوضاع دور النشر ونشاطاتها الحالية والعامة ، إنّما هو في الواقع طرح جانب من مشاكل الثقافة العربيّة والكتاب العربيّ ، والتطرق في نفس الوقت إلى علاقة المال بالفكر والتجارة بالثقافة .
و" المحرر " إذ تفتح هذا الملف ، ملف دور النشر ، في سلسلة حلقات ، لا تدعي بأنّها ستقدّم حلولاً جاهزة وإنّما هي فقط محاولة منها لطرح المشكلة ، وإثارة الموضوع ، خاصة وأن هذا الموضوع يثار حوله لغط وهمس ، هذا إذا لم نقل اتهامات أحياناً تصل إلى حدّ الخطورة .
فالحوار إذن مفتوح . وهذا منبر لكلّ رأي يمكن أن يضيف إلى المناقشة عناصر جديدة ، تلقي ضوءاً على هذا الموضوع وتسعى لتوضيحه للقارئ العربيّ .
وبما أنّه ليس بالإمكان الاتّصال وإجراء أحاديث مع كلّ دور النشر الموجودة في بيروت ـ وهي كثيرة جداً ـ لذلك فقد وقع الاختيار على بعضها مراعين في هذا التنويع اختلاف الميادين والاتجاهات .
الحلقة الأولى مخصّصة للتعريف بدار الحقيقة ، تليها على التوالي حلقات مع : دار العلم للملاين ، دار الطليعة ، دار الشروق ، المكتبة العصريّة ودار الآداب .
" دار الحقيقة " حديثة العهد في عالم النشر والطباعة والتوزيع : فقد تأسّست في أواخر عام 1969 ، أي أنّه لم يمض على وجودها أكثر من سنتين . فتجربتها ، إذن ، في هذا الميدان لم تتسع بعد .
إلاّ أنّ طموحها الثقافيّ كبير : فهي تسعى للمشاركة في تغيير المجتمع العربيّ من مختلف جوانبه الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والحضاريّة . أي أنّها ، تريد العمل ، من الناحية الفكريّة ، على دفع المجتمع العربيّ إلى أن تعيش النصف الثاني من القرن العشرين .
ويوضح بيانها الذي أصدرته في العام الماضي الظروف التي دفعت إلى تأسيسها ، وهو يحدّد في نفس الوقت ، أهدافها الفكريّة أو حتى السياسيّة التي وضعتها لنفسها :
" على حطام النكسة ، وكمساهمة في الردّ عليها ، على صعيد الفكر ، قامت " دار الحقيقة " لتقدّم خدمة فحسب . وفي ظروف السيطرة الإمبرياليّة والتجزئة والتخلّف التي يرزح فيها الشعب العربيّ يصبح الطريق الوحيد إلى تأدية هذه الخدمة هو العمل في سبيل التغيير .
هذا التغيير يبدأ بالرفض . ولكي يكون هذا الرفض واعياً وعنيداً ينبغي أن يستند إلى معرفة يستطيع المواطن العربيّ من خلالها التعرّف الموضوعيّ على الواقع العربيّ والعالميّ . لذا فإن الثقافة التي تقدّمها هي الثقافة الثوريّة ".
يظهر من ذلك بوضوح أنّ غاية الدار هي محاولة إذكاء وتنمية النضال العربيّ ضدّ الإمبرياليّة والتجزئة والاستغلال والتخلّف .
ولكن هناك صعوبات واجهت الدار منذ البدء . ومن هذه الصعوبات ، التي ركّز عليها مديرها المسؤول ، عدم وجود شركات للتوزيع والتسويق تمتدّ إلى مختلف البلاد العربيّة . وهناك أيضاً الرقابة في بعض البلاد العربيّة ، والرقابة الذاتية . وهكذا فإنّ كتب " دار الحقيقة " مثلاً لا تدخل السعوديّة بتاتاً وكذلك الكويت وكلّ البلاد العربيّة المحافظة واليمينيّة .
أمّا فيما يتعلّق بالأسواق التي تتوجّه إليها " دار الحقيقة " أو سائر دور النشر لتصريف كتبها ، فهي أولاً أسواق البلاد العربيّة وفي مقدمتها السوق السوريّ والعراقيّ ، أمّا السوق المحلي اللبنانيّ ، فإنّه يستهلك نسبة ضئيلة جداً من مطبوعاتها .
لماذا وما هو سبب ذلك ؟...
أولاً وقبل كلّ شيء لأنّ السوق اللبنانيّ ، نظراً لعدد السكان ، ضيّق جداً بالنسبة إلى البلاد العربيّة الأخرى . وكذلك أيضاً ، فيما يظهر ، فإنّ اللبنانيّ المتعلّم أو " المثقّف " لا يقرأ كثيراً ( مع ما يحمل هذا من تناقض ). يضاف إلى ذلك منافسة الكتاب الأجنبيّ ، على الأخصّ الفرنسيّ والإنكليزيّ ، مع أنّ سعره عال نسبياً . وبما أنّ هناك نسبة كبيرة من اللبنانيين ذوي الثقافة الأجنبيّة ، فإنّهم في هذه الحالة يفضلون ، إذا أرادوا القراءة ، أن يقرأوا الكتب الأجنبيّة .
ويذكر مدير " دار الحقيقة " أنّ الكتب التي تقرأ أكثر من غيرها ، خاصة بين الأجيال الطالعة ، هي الكتب التي تدعو إلى التغيير ، تغيير الواقع العربيّ اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً .
لذلك فإنّنا نجد أنّ مواضيع الكتب التي تصدر عن دار الحقيقة ، ليست كتباً تعالج مواضيع الساعة ( حرب العصابات مثلاً ) وإنّما هي كتب أساسيّة وفي بعض الأحيان كلاسيكيّة يمكن أن تقرأ مرة وأكثر ، وأن يعاد إليها بين فترة وفترة .
وفيما يلي بعض عناوين الكتب التي نشرتها الدار حتى الآن ، وهي تعطي فكرة للقارئ عن خطّها السياسيّ : التخلّف والتنمية في العالم الثالث ( البرتيني )، ثورة أكتوبر في نصف قرن ( إسحق دويتشر )، في الفكر اللينينيّ ( لوكاكش ، بوخارين ، غارودي ) الاستعمار الجديد في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة ( جاك وودس )، ماركس وإنجلز ( أوغست كورنو ) إلخ ، إلخ .....
وعن سؤال حول ما إذا كان صحيحاً الرأي الذي يقول بأنّ حركة النشر والترجمة قد انتقلت بالفعل من القاهرة إلى بيروت ، فجواب مسؤول دار الحقيقة يبقى غير قطعيّ ، لا إيجاباً ولا سلباً، وهو يضيف قائلاً : من أجل الإجابة على ذلك بطريقة علميّة يجب القيام أولاً بدراسة إحصائيّة، وهذا ما لم يعمل حتى الآن .
إلاّ أنّه ، على فرض أنّ نشاط النشر والترجمة قد تمركز حالياً في بيروت بدل القاهرة ، فإنّ ذلك يمكن أن يفهم بسهولة ، وأوّل سبب يتبادر إلى الذهن هو أنّ مجال تنوّع النشر في بيروت أوسع بكثير منه في القاهرة .
كلّنا يعرف مثلاً ـ وذلك لا يحتاج إلى ذكاء كبير لإدراكه ـ إنّه في بيروت ، أصبحت حريّة النشر تشبه " الانفلات "، ينشر فيها ويطبع ويوزع ما هبّ ودبّ ، حتى الكتب المشبوهة والمدسوسة وبإيحاء مباشر أو غير مباشر من المخابرات الاستعماريّة أو الإسرائيليّة ".
ويعطي مدير " دار الحقيقة " مثلاً على ذلك ، انتشار كتاب " تحطمت الطائرات عند الفجر" في مكتبات بيروت ... وكذلك أيضاً مئات الأمثلة يمكن أن تساق في هذا المجال .
" ولكن إلى جانب ذلك ، ثمّة كتب ثوريّة ، ومتطرّفة في ثورتها . وهذه أيضاً بالمئات . مثلاً مؤلفات : جيفارا ، مالكوم أكس ، الفهود السود ... إلخ ، إلخ "...
هذا ، وإذا نظرنا إلى ما طبعت ووزعت " دار الحقيقة " إلى الآن ( ومجموعه 26 كتاباً )، فإنّنا نجد فقط أربعة كتب مؤلفة لكاتب عربيّ واحد ، والباقي مترجم عن اللغة الفرنسيّة في الغالب . لماذا ؟....
ذلك لأنّ ميادين الكتب ـ كما يؤكد مسؤول الدار في نهاية حديثه ـ " هي موضوعات اجتماعيّة ( سوسيولوجيّة ) اقتصاديّة أو سياسيّة عامة . وفي مثل هذه الموضوعات ـ إذا لم يكن الكتاب يتناول موضوعاً أو مسألة عربيّة ـ فإنّنا نفضل في هذه الحالة اللجوء إلى الكتاب الأجنبيّ . فما الداعي إلى اعتماد نتاج لكاتب عربيّ هو في الواقع ضرب من الترجمة بتصرف ..".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] ) أنظر ، جريدة " المحرر "، 16 شباط 1972 .