الأخبار - زيارة نجاد للبنان: المقاومة صنو الاستقرار
زيارة نجاد للبنان: المقاومة صنو الاستقرار
عدد السبت ١٦ تشرين الأول ٢٠١٠
استقبال نجاد في بنت جبيل أوّل من أمس (جمال الصعيدي ــ رويترز)استبق الانقسام الداخلي زيارة الرئيس محمود أحمدي نجاد للبنان، ولم ينتهِ بانتهائها. لأن الرجل جزء من مشكلة، لا المشكلة. حدوث الزيارة أحدث الصدمة. جارى التناقض الأكثر مدعاة للجدل: ما توّد الدولة سماعه، وما يريده حزب الله
نقولا ناصيف
بانقضاء زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للبنان، تُطوى صفحة حدث اتسمت استثنائيته بموقع حدوثه، أكثر منه بما أدلى به نجاد في قصر بعبدا أو في الضاحية الجنوبية، أو في بنت جبيل وقانا. لم يقل في أي من الأمكنة الأربعة هذه، كلاماً غير مألوف عن خطبه في إيران، أو في أي مكان آخر في العالم يقصده الرجل، حيال إسرائيل والغرب، وشكوكه في صدقية المجتمع الدولي وقرارات مجلس الأمن، وتشبّثه بكبرياء بلاده وقوتها وقدراتها. بيد أن تكرار هذا الكلام من لبنان، ومن مسافة لا تزيد أحياناً على كيلومتر واحد من الخط الأزرق في مواجهة الدولة العبرية، يصبح ذا دلالة أكبر بالنسبة إلى إيران، أكثر منها إلى حزب الله. يوحي نجاد أن عداء بلاده لإسرائيل أوصله إلى خطوط تماس معها، وهو يقول من مسافة قريبة جداً بزوالها، وعودة سكانها إلى أوطانهم الأصلية، ويقدّم دعماً غير مشروط لحزب الله في مقاومته لها.
عند هذا الحدّ تنتهي زيارة نجاد للبنان، وتتوقف مفاعيلها. بعدها ينسى اللبنانيون الحدث الاستثنائي باستقبالهم، مرحبين أو متحفظين، رئيساً على نحو ناقَضَ استقبالهم الرئيس محمد خاتمي عام 2003. لم يحظَ الرئيس السلف، كالرئيس الخلف، باستقبال شعبي شيعي أكد تعلق الطائفة بمرجعية الجمهورية الإسلامية لها، ولم يستمع اللبنانيون إلى خطاب مشابه بينهما. تحدّث خاتمي من المدينة الرياضية، وهي مرفق رسمي، وتحدّث نجاد من ملعب الراية الملتصق بحزب الله، كأحد أهم منابر أمينه العام السيّد حسن نصر الله. نُظِرَ إلى خاتمي على أنه رئيس مثقف ومعتدل وعاقل يولي الحوار الإسلامي – المسيحي أولوية متقدّمة، ونُظر إلى نجاد على أنه رئيس محارب ومناوئ للمجتمع الدولي. لم يختلف الرجلان في الموقف الديني والسياسي من إسرائيل. كان خاتمي عند بعض اللبنانيين أعقل من غلاة الجمهورية الإسلامية ومتطرّفيها، وظهر نجاد على أنه رئيس هؤلاء يقودهم إلى نزاعات إقليمية ولا يخسرها.
لكنّ انطواء الحدث الاستثنائي يفضي أيضاً إلى ملاحظات تتصل بمغزاه:
بزيارة نجاد، كرّس حزب اللّه نفوذ إيران أحد عناصر الاستقرار
1 – لم يكتفِ حزب الله بتأكيد تشبّثه بإيران وتحالفه العميق معها، ببعديهما الديني والسياسي، بل أبرَزَ قدرته على رعاية زيارة، رغم طابعها الرسمي واستجابتها دعوة الرئيس ميشال سليمان، كرّست نفوذ إيران في لبنان على أنه أحد عناصر استقراره. تجنّب نجاد الخوض في شأن لبناني داخليّ، وغالى في إظهار دعمه لكل مقاومة تواجه إسرائيل، ولم يحرج النفوذ السوري في لبنان. لكنه، في واقع الحال، وضع بين يديْ حزب اللّه سرّ الاستقرار الداخلي، وهي الوصفة السورية نفسها: اقتران المقاومة – والمقصود بذلك حزب الله – بالاستقرار.
2 – رغم النبرة العالية التي أطلقها نجاد في الضاحية الجنوبية وبنت جبيل وقانا، والحماسة المفرطة التي رافقتها، لم توحِ بتغيير حادّ في مواقف حزب الله حيال استقرار الجنوب، وخصوصاً في منطقة عمليات القرار 1701 التي كانت مسرحاً لتحرّك الرئيس الإيراني ولقائه عشرات الألوف من السكان الشيعة المؤيدين لحزب الله. لم يلامس نجاد، ولا حزب الله، القرار 1701 ولا طبيعة مهمة القوة الدولية هناك، على وفرة إدانته المجتمع الدولي، ولم يشجع على استعادة العمل العسكري من الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، ولا تقويض الخط الأزرق وطرد الجنود الدوليين. تحدّث عمّا يتجاوز الخط الأزرق إلى داخل الدولة العبرية بالتبشير بزوالها ومتوقعاً عودة سكانها إلى مواطنهم الأصلية، وتصلّب في دعم المقاومة غير المغلوبة.
بذلك لم يبعث على قلق الجنود الدوليين تبعاً لمصدر دبلوماسي رفيع، معنيّ بدور القوة الدولية جنوبي نهر الليطاني، بتمييز المصدر بين الوجود السياسي لحزب الله والوجود العسكري: لم تتخطَّ زيارة الرئيس الإيراني الدور السياسي للحزب في المنطقة إلى ما يبعث على القلق، ولا الجنود الدوليون شعروا بدورهم بالقلق على حياتهم من نتائجها، أو من تأثيرها على استمرار تنفيذ القرار 1701. قبله، يضيف المصدر الدبلوماسي الرفيع، زار أمير قطر منطقة عمليات القوة الدولية متفقداً الإعمار الذي مولّته دولته، وكذلك فعل نجاد. أحداث 3 آب في العديسة سبّبت قلقاً للأمم المتحدة والقوة الدولية لأنها عرّضت الخط الأزرق لخطر حقيقي، وكذلك الاستقرار في الجنوب، فيما لم تقترن زيارة الرئيس الإيراني برفقة نواب حزب الله، بأي استفزاز كان من المؤكد أنه سيقلق اليونيفيل لو أن حزب الله أظهر سلاحاً في استقباله الرئيس الإيراني. للقوة الدولية علاقة دائمة بنواب حزب الله والجهات التي تمارس العمل السياسي، لكن للجيش والقوة الدولية أيضاً صلاحية حفظ الاستقرار جنوبي نهر الليطاني. كلاهما لم يشعر الخميس الماضي بأن ثمّة من حاول التعرّض لهذه الصلاحية، بل أبرَزَ نجاد تشديده على الدعم السياسي لحزب الله أكثر منه الدعم العسكري.
3 – لأن زيارة الرئيس الإيراني انتصار دبلوماسي لحزب الله، أكثر منها محاولة لقلب توازن القوى الداخلي، فهي لن تؤول إلى إخراج الحزب عن الخيار الذي سلكه منذ صدور القرار 1701 عام 2006، بتأكيد حقه في مقاومة إسرائيل لتحرير ما بقي من الأراضي المحتلة، لكن من غير استخدامه، مذذاك، المقاومة المسلحة أو إطلاق رصاصة سواء في اتجاه مزارع شبعا أو عند الخط الأزرق. في كل مرة أطلقت صواريخ مجهولة من الأراضي اللبنانية إلى إسرائيل، سارع الحزب إلى نفي علاقته بها. بل نجح الحزب، في الواقع، في جعل خياره في المقاومة في صلب الاستراتيجيا الدفاعية للدولة اللبنانية، بإيرادها في صلب البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة، وفي صلب مداولات طاولة الحوار الوطني التي كرّست شرعية سلاح الحزب وشرعت تبحث عن إطار لاستخدامه، وفي صلب معادلة جعلت الجيش والشعب جزءاً لا يتجزأ من المقاومة لا العكس، وفي توجّهات رئيس الدولة، وقد أعاد سليمان تأكيد حقّ المقاومة في المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس الإيراني في قصر بعبدا الأربعاء الفائت. الأمر الذي يحيل زيارة نجاد مكسباً سياسياً وإعلامياً لحزب الله، أكثر منها خطوة تمهّد لانقلابه على التزامه القرار 1701 وحفظ الاستقرار جنوبي نهر الليطاني، وحماية الجنود الدوليين ومهمتهم.
لم يتطرّق نجاد إلى المحكمة الدولية ولم يُظهر استعداداً للتأثير على حزب الله
4 – من غير المؤكد أن لزيارة الرئيس الإيراني آثاراً سلبية على التوازن الداخلي المثقل بالمآزق والأزمات الموصدة الأبواب، لم تكن الجمهورية الإسلامية شريكاً فيها. فالرجل ليس طرفاً في الاشتباك الناشب بين حزب الله وحلفائه ورئيس الحكومة سعد الحريري وحلفائه على المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولم يسع أحد توقع اتخاذه موقفاً مناقضاً لوجهة نظر حزب الله الرافض قراراً ظنياً يتهم أفراداً فيه باغتيال الرئيس السابق للحكومة. والرجل ليس طرفاً كذلك في النزاع القائم بين رئيس الحكومة وسوريا ذي البعد المتصل بالعلاقات اللبنانية – السورية، وبالموقع الذي تنتظر دمشق من الحريري أن يضع نفسه فيه، سواء حيال العلاقات المميّزة بين البلدين والالتزامات المترتبة عليه بإزائها، أو حيال المقاومة.
في لقائه الحريري، لم يخض نجاد في موضوع المحكمة الدولية، مكتفياً بالتأكيد على الوحدة الوطنية والتفاهم والحؤول دون تأثر الداخل بالظروف الإقليمية، في أي من الملفات التي تمسّ اللبنانيين مباشرة. وبحسب مطّلعين على الحوار الذي دار بين الرجلين في خلوتهما الخميس، حاول رئيس الحكومة ولوج موضوع المحكمة الدولية بغية الحصول على موقف إيراني يخفف وطأة الانقسام الداخلي حولها، وخصوصاً من حزب الله، إلا أن الرئيس الإيراني لزم الاقتضاب، وقصر كلامه على العموميات.
كانت تلك إشارة من نجاد عبّرت عن عدم استعداده للتأثير على حزب الله في مشكلة يشاطره مخاوفه من نتائجها، وهي صدور القرار الظني. بيد أن ذلك عنى أيضاً أن الحزب يستقل بمواجهته الحريري حيال المحكمة عن إيران. بدا الرئيس الإيراني أكثر اهتماماً بتحميل زيارته للبنان مهمة إحداث خلل في التوازن الإقليمي في المنطقة، أكثر منه إحداث خلل في توازن القوى اللبناني. ذهب إلى بنت جبيل في طوافة للجيش اللبناني، إلى مسافة قريبة من الحدود مع إسرائيل تضعه في مرمى نيران الدولة العبرية، من غير أن تصعّد هذه من حركة احتجاج مستوطنيها على زيارة نجاد، في لحظة رفع نبرته ضدها وتهديده إياها بالزوال.